يُعَدّ أسلوب دلفاي أحد أهم الأساليب البحثية في الدراسات النوعية، لما يقدّمه من منهج منظّم للوصول إلى رأي جماعي موثوق من خلال استشارة الخبراء عبر جولات متتالية من التقييم. وقد اكتسب هذا الأسلوب مكانته لقدرته على جمع المعرفة المتخصصة، وتقليل التحيّزات، وتوليد توقعات دقيقة تجاه القضايا المعقدة التي يصعب قياسها بالطرق التقليدية.
ويستند دلفاي إلى خطوات منهجية تتضمن طرح الاستبيانات، وتقديم التغذية الراجعة، وإعادة التقييم للوصول إلى درجة من الإجماع العلمي. في هذا المقال، نستعرض مفهوم أسلوب دلفاي وكيفية استخدامه في البحث العلمي، موضحين أهميته، ومجالات تطبيقه، بالإضافة إلى أمثلة من بحوث عربية وعالمية استعانت به.
ما هو أسلوب دلفاي؟ ولماذا سميَّ بهذا الاسم؟
أسلوب دلفاي هو طريقة بحثية تعتمد على جمع آراء الخبراء عبر جولات متكررة من الاستبانات للوصول إلى اتفاق جماعي حول قضية محددة. وسُمِّي بهذا الاسم نسبة إلى مدينة “دلفاي” اليونانية التي اشتهرت قديمًا بمركز التنبؤات والحكمة، مما يعكس طبيعة الأسلوب في الاستشراف واتخاذ القرار القائم على خبرات المختصين.
ما خصائص أسلوب دلفاي في البحث؟
يقوم أسلوب دلفاي على مجموعة من المبادئ المنهجية التي تهدف إلى ضمان جودة جمع الآراء، وتقليل الانحيازات، وتحقيق توافق جماعي مبني على خبرة علمية لا على تأثيرات اجتماعية. وتُعد هذه المبادئ هي الركيزة التي تمنح المنهج قدرته على إنتاج معرفة دقيقة وقابلة للاستخدام في التنبؤ وصنع القرار وتطوير السياسات البحثية.
1- مبدأ استقلالية الخبراء
يقوم أسلوب دلفاي على مشاركة خبراء يعمل كل منهم بشكل مستقل ودون تواصل مباشر مع الآخرين. ويهدف هذا المبدأ إلى منع تأثير المكانة أو النفوذ العلمي داخل المجموعة، وضمان أن تنبع الإجابات من تحليل فردي خالص يعكس خبرة كل مشارك.
2- مبدأ الجولات المتكررة المنظمة
يُبنى الأسلوب على تنفيذ عدة جولات من الاستبيانات، يحصل خلالها الخبراء على فرصة لمراجعة آرائهم السابقة بناءً على نتائج المجموعات. ويسمح هذا التكرار برفع جودة الإجابات وتقليل التشتت تدريجيًا حتى يتشكل اتجاه جماعي واضح.
3- مبدأ التغذية الراجعة المحايدة
يتلقى المشاركون بعد كل جولة ملخصًا للإجابات السابقة يعرض متوسطات الآراء وتوجهات الإجماع دون الكشف عن هويات الخبراء. ويضمن هذا المبدأ أن تكون التغذية الراجعة موضوعية ومحايدة، بما يدعم إعادة تقييم الآراء بصورة علمية.
4- مبدأ الوصول إلى التوافق التدريجي
لا يعتمد أسلوب دلفاي على تصويت نهائي مباشر، بل على بناء توافق تدريجي يظهر عبر استقرار الآراء على مدى الجولات. وعندما تتقلص الفروق بين الإجابات وتُظهر تكرارًا متقاربًا، يُعد ذلك مؤشرًا على تحقق التوافق العلمي.
5- مبدأ السرية وعدم الكشف عن المشاركين
يحافظ الأسلوب على سرية هويات الخبراء لضمان حياد العملية ومنع التأثيرات الشخصية أو الاجتماعية. ويسهم هذا المبدأ في خلق بيئة علمية نزيهة تعزز الصراحة وتقلل من المجاملات أو الضغوط.
هذه المبادئ تجعله أسلوب فعال في تنظيم التفكير الجماعي وتحويل خبرات متعددة إلى رأي علمي موحّد. وتعكس هذه المبادئ قيمة دلفاي بوصفه منهجًا مرنًا وموثوقًا في الدراسات النوعية والتوقعات المستقبلية.
خطوات تطبيق أسلوب دلفاي خطوة بخطوة
يُطبَّق أسلوب دلفاي ضمن مسار منهجي متدرّج يبدأ من لحظة اتخاذ قرار استخدامه وينتهي عند الوصول إلى درجة مقبولة من التوافق بين الخبراء وتضمين النتائج في البناء النهائي للدراسة. وتكمن قوة هذا الأسلوب في أن كل خطوة فيه تُمهِّد للخطوة التالية عبر تغذية راجعة منظَّمة، ما يحوّل الآراء الفردية المتفرقة إلى رأي جماعي ناضج قابل للاستخدام في التخطيط وصنع القرار والبحث العلمي، وجاء هذا المسار متضمنًا لمجموعة من الخطوات المنهجية ألا وهي:
1- إعداد الدراسة وتحديد هدف استخدام أسلوب دلفاي
تبدأ عملية التطبيق بتحديد المشكلة البحثية أو القضية محل الدراسة، وصياغة هدف واضح من استخدام أسلوب دلفاي، مثل استشراف اتجاهات مستقبلية أو تحديد أولويات أو بناء قائمة معايير. في هذه المرحلة يُقرِّر الباحث ما إذا كان دلفاي هو المنهج الأنسب، ويحدّد نطاق الموضوع ومحاوره الرئيسة التي ستُبنى عليها الجولات اللاحقة.
2- اختيار الخبراء ومعايير ضمّهم إلى العينة
يلي ذلك تحديد فئة الخبراء الذين ستُبنى عليهم العملية بأكملها، عبر وضع معايير واضحة للخبرة العلمية والعملية في المجال المدروس. يحرص الباحث على تنوّع تخصصات الخبراء وتوازن خلفياتهم، مع التأكيد على استقلاليتهم وعدم وجود تضارب مصالح، لأن جودة المخرجات مرتبطة مباشرة بمستوى هذه العينة.
3- تصميم الاستبانة الأولية وصياغة محاورها
يُعدّ تصميم أداة الجولة الأولى خطوة حاسمة، إذ تُترجم المشكلة البحثية إلى أسئلة أو عبارات تُحفّز الخبراء على إبداء آرائهم بحرية. غالبًا تُصاغ المحاور في صورة أسئلة مفتوحة أو عبارات تقييم واسعة تسمح بجمع أكبر قدر من الأفكار، لتُستخدم لاحقًا في بناء بنود أكثر تحديدًا في الجولات التالية.
4- تنفيذ الجولة الأولى وجمع الاستجابات
يتم إرسال الاستبانة الأولية إلى الخبراء مع شرح مختصر لهدف الدراسة وطبيعة أسلوب دلفاي وضوابط السرية. تُمنح فترة زمنية مناسبة للإجابة، ثم تُجمع الاستجابات كما هي دون نقاش مباشر بين المشاركين، مما يضمن استقلالية الرأي ويمنع التأثير المتبادل أو هيمنة الأصوات الأقوى.
5- تحليل الجولة الأولى وبناء التغذية الراجعة
بعد جمع الاستجابات، يجري الباحث تحليلًا نوعيًا أو كمّيًا لها بهدف استخلاص الأفكار المتكررة، والاتجاهات العامة، والنقاط المختلف عليها. تُنتَج في هذه المرحلة ملخّصات منظَّمة تمثّل رأي المجموعة دون ذكر أسماء، وتُستخدم هذه الملخّصات كأساس لبناء استبانة أكثر تحديدًا في الجولة الثانية.
6- إعداد الجولة الثانية (وما بعدها) وتعديل البنود
يُعاد تشكيل الاستبانة اعتمادًا على نتائج التحليل، فتصبح البنود أكثر تركيزًا، وقد تُحوَّل إلى عبارات قابلة للتقدير (مثل مقاييس ليكرت) لقياس درجة الاتفاق. تُرسل الجولة الثانية إلى الخبراء مرفقة بتغذية راجعة موجزة عن نتائج الجولة الأولى، ما يسمح لكل خبير بمراجعة موقفه على ضوء رأي المجموعة وتعديل إجاباته إذا رأى ذلك مناسبًا.
7- متابعة الجولات حتى الوصول إلى درجة التوافق
تتكرر العملية في جولات متتابعة بحسب حاجة الدراسة، مع الاستمرار في تقديم تغذية راجعة بعد كل جولة وتعديل البنود بما يخدم وضوح الموضوع وتقليص التشتت. يتوقف عدد الجولات عادة عندما تُظهر النتائج استقرارًا في الاستجابات أو مستوى مقبولًا من التوافق الإحصائي أو النوعي، بحيث لا تضيف الجولات الجديدة قيمة جوهرية.
8- توثيق النتائج ودمجها في إطار الدراسة
في المرحلة الأخيرة تُقدَّم نتائج أسلوب دلفاي في صورة جداول وتفسيرات تحليلية توضّح درجة التوافق، والعناصر التي تم الاتفاق عليها أو الخلاف حولها، وكيفية توظيف هذه المخرجات في الإجابة عن أسئلة البحث أو صياغة التوصيات. كما تُوثَّق إجراءات الاختيار، والجولات، ومعايير التوقف، حتى يكون الأسلوب قابلاً للتقويم والتكرار في دراسات لاحقة.
تكمن القيمة الحقيقية لهذا المسار المنهجي لتطبيق أسلوب دلفاي في قدرته على تحويل الخبرة الفردية المتفرقة إلى رأي جماعي منظم، يمكن الاعتماد عليه في توجيه القرارات البحثية والعملية بصورة منهجية ورصينة.
متى يُستخدم أسلوب دلفاي؟
يُستخدم أسلوب دلفاي في السياقات التي تتطلب تقديرًا مستقبليًا أو حكمًا خبيرًا في قضايا لا تتوافر حولها بيانات واضحة، إذ يقوم على جمع آراء نخبة من المتخصصين عبر جولات متعددة للوصول إلى توافق معرفي. ويُعد هذا الأسلوب مناسبًا للموضوعات التي تتسم بالتعقيد وتشابك العوامل، ومن أبرزها:
1- التنبؤ بالقضايا المستقبلية
يُستخدم الأسلوب عندما تحتاج المؤسسات إلى تقدير اتجاهات مستقبلية كالتحولات التقنية أو الاقتصادية. ويتيح هذا النهج دمج خبرات متعددة لتكوين رؤية مشتركة حول احتمالات التطور. ويعد مناسبًا في حالات شح البيانات أو سرعة تغير البيئة.
2- دعم اتخاذ القرار في البيئات غير المؤكدة
يُوظف دلفاي عندما تتعذر صناعة القرار اعتمادًا على الأدلة الكمية وحدها. ويسمح بجمع رأي الخبراء حول خيارات متعددة مع تحليل نقاط القوة والضعف. ويُعد ذا أهمية خاصة في القرارات الاستراتيجية الحساسة.
3- بناء سياسات عامة تعتمد على رأي الخبراء
يلجأ صناع السياسات إلى دلفاي عندما تتطلب القرارات استشرافًا للممارسات اجتماعية أو تربوية أو صحية. ويُسهم الأسلوب في إنتاج إطار معرفي يساعد على ضبط التدخلات العامة. ويقلل من مخاطر القرارات المبنية على تقديرات فردية.
4- تطوير المناهج والبرامج الأكاديمية
تستخدم المؤسسات التعليمية هذا الأسلوب لتحديد المهارات المستقبلية وبناء مناهج أكثر ملاءمة لسوق العمل. ويتيح جمع آراء الخبراء في جولات متعددة الوصول إلى تصور مشترك للمضامين الأساسية. ويسهم ذلك في ضمان جودة التطوير.
5- الدراسات التي تجمع بين تخصصات متعددة
يفيد الأسلوب عندما تتطلب الظاهرة منظورًا متعدد الأبعاد، مثل قضايا الأمن السيبراني أو التحول الرقمي. ويساعد في تجاوز التحيز التخصصي من خلال دمج تحليلات خبراء من مجالات مختلفة. ويؤدي ذلك إلى نتائج أكثر توازنًا.
6- تقييم المخاطر المعقدة
يُستخدم دلفاي في تقدير المخاطر التي يصعب قياسها بالأدوات التقليدية، مثل المخاطر البيئية أو التقنية. ويعتمد الأسلوب على دمج الخبرة المتخصصة لتحويل تقدير المخاطر إلى رؤية كمية نسبية. ويساعد في بناء خطط التعامل معها.
7- التخطيط بعيد المدى في المؤسسات
مزايا أسلوب دلفاي
يُعدّ أسلوب دلفاي منهجًا بحثيًا تفاعليًا يقوم على جمع آراء الخبراء بصورة متدرجة ومنظمة، ويُستخدم في البيئات التي تتطلب تقديرًا مستقبليًا أو اتخاذ قرار في ظل معلومات غير مكتملة. ويستند هذا الأسلوب إلى مبدأ التكرار المنهجي الهادف إلى تقليل التحيّز وتحقيق توافق موضوعي بين مجموعة من المتخصصين. وفيما يلي أبرز مزاياه الجوهرية ضمن الإطار المنهجي والبحثي:
- تعزيز الموضوعية الجماعية عبر دمج آراء خبراء متعددين من دون تأثير مباشر بينهم.
- تقليل تحيّز السلطة والخبرة من خلال سرية المشاركات وغياب المواجهة المباشرة.
- إتاحة مراجعة متدرجة للآراء مما يسمح بإعادة تقييم المواقف بناءً على إجماع ناشئ.
- رفع دقة التنبؤات المستقبلية باستخدام جولات متكررة لتحسين تقديرات الخبراء.
- ملاءمة عالية للموضوعات المعقدة التي تتطلب رؤية متعددة الأبعاد.
- مرونة في التطبيق عبر وسائل إلكترونية تيسر المشاركة العالمية دون قيود زمنية أو مكانية.
- إنتاج بيانات أكثر استقرارًا نتيجة تقليل التباين في التقديرات مع كل جولة.
- قدرة على دعم اتخاذ القرار المؤسسي من خلال بلورة رأي خبير متقارب يمكن الوثوق به.
وبذلك، يوفّر أسلوب دلفاي إطارًا منهجيًا قادرًا على إنتاج معرفة جماعية دقيقة، ما يجعله خيارًا بارزًا في الدراسات الاستشرافية والبحوث التي تستلزم توافقًا خبيرًا عالي الموثوقية.
عيوب وتحديات أسلوب دلفاي
يُنظر إلى أسلوب دلفاي باعتباره أداة بحثية فعّالة في توليد توافقات خبير، إلا أن تطبيقه لا يخلو من عيوب وتحديات تؤثر في موثوقيته إذا لم يُدار بطريقة منهجية دقيقة. وتنبع هذه التحديات من طبيعة الاعتماد على الخبراء، ومن البنية التكرارية التي قد تُفضي إلى تحيّزات أو تباينات في جودة البيانات. وفيما يأتي أبرز العيوب والتحديات المرتبطة بهذا الأسلوب:
- احتمال انخفاض جودة النتائج عند اختيار خبراء غير مؤهلين أو ذوي خبرة محدودة في المجال.
- إطالة المدة الزمنية للدراسة بسبب الحاجة إلى جولات متعددة للوصول إلى توافق مقبول.
- خطر التماثل القسري للآراء نتيجة ميل المشاركين إلى التوافق الشكلي بدلًا من القناعة العلمية.
- تأثر العملية بمعدلات الاستجابة حيث يؤدي انسحاب الخبراء أو ضعف الالتزام إلى إضعاف الموثوقية العامة.
- احتمال بروز تحيّز تصميم الاستبيانات إذا لم تُبنَ الأسئلة بطريقة محايدة وموضوعية.
- تفاوت مستوى تفسير الخبراء للأسئلة مما يخلق تباينًا غير مقصود في طبيعة الإجابات.
- اعتماد كبير على مهارة منسّق الدراسة في إدارة الجولات وضبط جودة التحليل.
- محدودية القدرة على التعميم لأن النتائج عادةً تعكس رؤى مجموعة معينة من الخبراء وليس مجتمعًا واسعًا.
وبذلك، تتطلب إدارة أسلوب دلفاي قدرًا عاليًا من الدقة في اختيار الخبراء وتصميم الجولات وتحليل البيانات، لضمان تحصيل مخرجات علمية تتمتع بموثوقية واتساق منهجي يمكن البناء عليهما في الدراسات المستقبلية.
أساليب متقدمة مشتقة من دلفاي
تطوّر أسلوب دلفاي عبر الزمن ليشمل نماذج أكثر تطورًا تستجيب لاحتياجات البحث المعاصر، خاصة في مجالات صنع القرار، واستشراف المستقبل، وتصميم السياسات العامة. وتمتاز هذه الأساليب المشتقّة بأنها تحافظ على جوهر دلفاي القائم على التوافق التدريجي بين الخبراء، لكنها تضيف آليات تحليلية أو تفاعلية تمنح العملية قدرًا أكبر من الدقة والعمق.
1- دلفاي المعدّل
يعتمد هذا الأسلوب على تزويد الخبراء في الجولة الأولى بقائمة مسبقة من المحاور أو العبارات المستخلصة من الأدبيات العلمية أو الدراسات السابقة، بدلًا من الأسئلة المفتوحة التقليدية. يهدف هذا التعديل إلى تقليل الوقت وتحسين التركيز، خصوصًا في الدراسات التي تمتلك أرضية معرفية واضحة، مما يسمح بانتقال أسرع نحو قياس التوافق.
2- دلفاي الموزون
يُستخدم هذا النموذج عندما يكون للخبراء مستويات مختلفة من الخبرة أو التأثير العلمي، حيث تُمنح إجاباتهم أوزانًا متفاوتة وفق معايير محددة مثل عدد سنوات الخبرة أو الدرجة العلمية. ويوفر هذا الأسلوب صورة أكثر واقعية للتوافق، لأنه يوازن بين الآراء حسب قيمتها العلمية وليس عدد الأصوات فقط.
3- دلفاي الواقعي
يجمع هذا النموذج بين مزايا دلفاي التقليدي والتقنيات الرقمية الحديثة، إذ يسمح للخبراء بالتفاعل في الزمن الحقيقي عبر منصة إلكترونية تعرض التغذية الراجعة فور إدخال الإجابات. ويؤدي هذا النظام إلى تقليل المدة الزمنية المطلوبة للجولات، ويزيد من دقة التفاعل دون التضحية بمبدأ السرية أو التوافق.
4- دلفاي متعدد المعايير
يُستخدم هذا الأسلوب عندما يتطلب الموضوع تقييم عناصر متعددة في وقت واحد، مثل تحديد أولويات المشروعات أو المفاضلة بين بدائل استراتيجية. ويجمع بين دلفاي وتقنيات اتخاذ القرار متعدّد المعايير، مما يتيح للخبراء تقييم كل عنصر وفق أوزان ومعايير منهجية دقيقة.
5- دلفاي المختلط
يجمع بين الجوانب النوعية والكمّية في منهج واحد، بحيث تُستخدم الأسئلة المفتوحة في الجولات الأولى لتوليد الأفكار، ثم تُحوَّل هذه المخرجات إلى مقاييس كمية في الجولات اللاحقة لقياس درجة التوافق. ويُعد هذا النموذج من أكثر الاشتقاقات ملاءمة للدراسات المعقدة التي تحتاج إلى تفسير وتحليل عددي في آن واحد.
6- دلفاي المستقبلي
يركّز هذا الأسلوب على استشراف المستقبل عبر تحليل السيناريوهات، واتجاهات التغيير، وتحديد العوامل المحرّكة المحتملة. ويُعد مناسبًا في مجالات التخطيط الاستراتيجي، ودراسات التكنولوجيا، والتعليم، والسياسات العامة، لأنه يضع آراء الخبراء ضمن إطار زمني مستقبلي بدلًا من الوضع الراهن فقط.
توفر هذه الأساليب المتقدمة المشتقة من أسلوب دلفاي خيارات منهجية مرنة تمكّن الباحث من اختيار النسخة الأنسب
لمشكلته البحثية، مع الحفاظ على جوهر دلفاي القائم على بناء توافق علمي متدرّج ومنضبط.

نصائح لإنجاح تطبيق أسلوب دلفاي في البحث العلمي
يمثّل تطبيق أسلوب دلفاي خطوة منهجية دقيقة تتطلب تخطيطًا محكمًا لضمان الوصول إلى توافق خبير موثوق وقابل للاستخدام البحثي. وتنبع أهمية هذه النصائح من دورها في رفع جودة العملية التفاعلية بين الخبراء، وتعزيز صرامة التحليل، وتقليل التحيّز الذي قد ينشأ عبر الجولات المتكررة. وفيما يأتي أبرز النصائح التي تسهم في إنجاح تطبيق أسلوب دلفاي في البحث العلمي:
- اختيار خبراء ذوي خبرة حقيقية في المجال لضمان جودة المعرفة المتبادلة.
- تصميم استبيانات محايدة ودقيقة تركز على النقاط الجوهرية دون تعبيرات مؤثرة.
- صياغة أسئلة قابلة للقياس والتحليل لتسهيل المقارنة بين الجولات.
- توفير تعليمات منهجية موحدة لجميع المشاركين لضمان فهم متقارب للأسئلة.
- الحفاظ على سرية الإجابات لمنع التأثر بالآراء الشخصية أو المكانة العلمية.
- تحديد عدد الجولات مسبقًا مع مرونة بسيطة لضبط المسار عند الحاجة.
- تحليل البيانات باستخدام معايير إحصائية واضحة لتتبع الاستقرار في الآراء.
- تقديم تغذية راجعة منظمة بين الجولات تُبرز الاتجاهات دون فرض تفسير معين.
- الحرص على إدارة الوقت بفعالية لضمان استمرارية مشاركة الخبراء في جميع الجولات.
- استخدام أدوات إلكترونية موثوقة تضمن سهولة المشاركة ودقة جمع البيانات.
- التأكد من توازن حجم عينة الخبراء بحيث تكون كافية لتمثيل تنوع الآراء.
- تدوين المعايير التحليلية مسبقًا لتعزيز الشفافية والاتساق المنهجي.
وبذلك، يساهم الالتزام بهذه الإرشادات في تعزيز القوة التفسيرية والموثوقية العلمية لنتائج أسلوب دلفاي، مما يجعله أداة فعّالة في الدراسات الاستشرافية واتخاذ القرار القائم على المعرفة الخبيرة.
أمثلة على بحوث علمية استخدمت أسلوب دلفاي:
يُستخدم أسلوب دلفاي على نطاق واسع في البحوث التي تتطلب رأيًا جماعيًا مُنظّمًا من الخبراء، خاصة في المجالات التي يصعب فيها الاعتماد على البيانات الكمية أو التي تتطلب توقعات مستقبلية أو بناء معايير. وتُظهر التطبيقات التالية كيف استثمر الباحثون قوة دلفاي في تطوير المعرفة وصنع القرار العلمي:
مثال 1:
بحث بعنوان “تصورات خبراء التربية لمتطلبات تفعيل الدراسات المستقبلية في البحوث التربوية: دراسة باستخدام أسلوب لفاي”
للباحثين: د. نجلاء محمد الحضيف و أ. د/ إبراهيم عبد الله العبيد
هدفت الدراسة إلى التعرف على تصورات خبراء التربية حول متطلبات الدراسات المستقبلية البشرية والمنهجية والإجرائية في البحوث التربية، ولتحقيق الأهداف المستقبلية استخدمت الدراسة أحد أساليب الدراسات المستقبلية وهو أسلوب دلفاي.
مثال 2:
بحث بعنوان ” استشراف المستقبل لإدارة الموارد البشرية الخضراء في المدارس المتوسطة الحكومية بالرياض باستخدام أسلوب دلفاي”
للباحثه: فاطمة بنت حميد علي الطويرقي
هدفت الدراسة إلى استشراف المستقبل لإدارة الموارد البشرية الخضراء في المدارس المتوسطة الحكومية بالرياض باستخدام أسلوب دلفاي، ولتحقيق هدف الدراسة تم استخدام أحد أساليب الدراسات المستقبلية واستشراف المستقبل: وهو أسلوب دلفاي.
مثال 3:
بحث بعنوان ” استشراف التحديات المستقبلية لتطبيق الذكاء الاصطناعي في برامج التوجيه والإرشاد باستخدام أسلوب دلفاي”
للباحث: عبدالله غالي مجول السعيدي.
تتناول الدراسة استشراف التحديات المستقبلية لتطبيق تقنيات الذكاء الاصطناعي في برامج التوجيه والإرشاد بهدف تحديد العقبات التقنية والأخلاقية والاجتماعية التي قد تعيق تطور هذه التطبيقات. اعتمد الباحث على أسلوب دلفاي، كمنهجية استشرافية تتيح جمع آراء لخبراء (الموجهيين الطلابيين) في ثلاث جولات متتابعة لتحقيق توافق حول التحديات المحتملة.
مثال 4:
بحث بعنوان ” Management of adult sepsis in resource-limited settings: global expert consensus statements using a Delphi me”
للباحثون : (Thawaites,. et al)
تهدف الدراسة للوصول إلى توافق في الآراء وتقديم بيانات ممارسات سريرية متخصصة لإدارة تسمم الدم لدى البالغين في البيئات محدودة الموارد، وقامت منهجية الراسة على تشكيل تحالف آسيا والمحيط الهادئ لتسمم الدم (APSA) لجنة توجيهية دولية متعددة التخصصات ذات خبرة في إدارة تسمم الدم، وتضم خبيرًا في منهجية دلفاي. إذ اختارت اللجنة فريقًا دوليًا من الأطباء السريريين والباحثين ذوي الخبرة في إدارة تسمم الدم. واستُخدمت أسلوب دلفاي القائم على النهج التكراري للحصول على بيانات الإجماع النهائية.
تُظهر هذه الأمثلة أن أسلوب دلفاي يُستخدم في وضع المعايير، واستشراف المستقبل، وتحديد الأولويات، وبناء المؤشرات، وتحليل القضايا المعقدة. بما يعكس مرونة المنهج وقدرته على تحويل آراء الخبراء المتباينة إلى رؤية جماعية يمكن الاعتماد عليها في البحث العلمي وصنع القرار.
خاتمة:
في ختام هذا المقال، يتّضح أن أسلوب دلفاي يمثل منهجية نوعية فعّالة تساعد الباحثين على الوصول إلى إجماع علمي مدروس عبر الاستفادة من خبرات مجموعة من المختصين. فقد أثبتت هذه الطريقة قدرتها على تقديم رؤى دقيقة حول القضايا المعقّدة، بفضل خطواتها التكرارية التي تقلّل التحيّز وتعزّز موضوعية النتائج.
كما يوفّر دلفاي إطارًا منهجيًا مناسبًا للدراسات المستقبلية وتحديد الأولويات وصنع السياسات القائمة على المعرفة. وبذلك، يُعدّ استخدامه في البحث العلمي خيارًا منهجيًا رصينًا يرفع من جودة النتائج ويمنح الباحث أداة موثوقة لبناء قرارات أكثر توازناً وعمقًا.
مراجع المقال:
الحضيف، نجلا، والعبيد، إبراهيم. (2021). تصورات خبراء التربية لمتطلبات تفعيل الدراسات المستقبلية في البحوث التربوية: دراسة باستخدام أسلوب لفاي. المجلة العربية للعلوم التربوية والنفسية، 5(23)، 383- 422.
الطويرقي، فاطمة. (2023). استشراف المستقبل لإدارة الموارد البشرية الخضراء في المدارس المتوسطة الحكومية بالرياض باستخدام أسلوب دلفاي. مجلة العلوم التربوية والنفسية، 7(31)، 77- 100.
السعيدي، عبد الله. (2025). استشراف التحديات المستقبلية لتطبيق الذكاء الاصطناعي في برامج التوجيه باستخدام أسلوب دلفاي. المجلة العربية للقياس والتقويم، 6(11)، 189- 222.
Thwaites, L., Nasa, P., Abbenbroek, B., Dat, V. Q., Finfer, S., Kwizera, A., … & Myatra, S. N. (2025). Management of adult sepsis in resource-limited settings: global expert consensus statements using a Delphi method. Intensive Care Medicine, 51(1), 21-38.
الأسئلة الشائعة (FAQs)
ما الفرق بين أسلوب دلفاي والطريقة التقليدية في جمع الآراء؟
أسلوب دلفاي يستخدم جولات متعددة وتغذية راجعة منظمة للوصول إلى توافق، بينما تعتمد الطرق التقليدية مثل الاستبيانات أو المقابلات على جمع آراء لمرة واحدة دون تفاعل بين المشاركين.
هل يجب أن تكون هوية الخبراء معروفة لبعضهم البعض؟
لا، من المبادئ الأساسية في دلفاي الحفاظ على سرية المشاركين، مما يقلل من التحيز والتأثير المتبادل بين الأفراد.
كم عدد الجولات المثالي في تطبيق أسلوب دلفاي؟
عادةً ما تتراوح بين جولتين إلى ثلاث جولات، ولكن يمكن زيادتها أو تقليلها حسب طبيعة الموضوع ومدى التباين في الآراء.
هل يمكن تنفيذ أسلوب دلفاي بالكامل عبر الإنترنت؟
نعم، في الواقع يُعد التنفيذ الإلكتروني أحد أهم نقاط قوة هذا الأسلوب، حيث يمكن استخدام أدوات مثل Google Forms أو منصات متخصصة لتيسير العملية عن بُعد.
ما مدى موثوقية نتائج أسلوب دلفاي؟
تعتمد موثوقية النتائج على جودة اختيار الخبراء، صياغة الأسئلة، وعدد الجولات. عند التنفيذ الجيد، تُعتبر نتائجه موثوقة وتُستخدم في السياسات العامة والدراسات الإستراتيجية.








