
تُعد صياغة مشكلة البحث العلمي من أهم المراحل التي يمر بها أي باحث عند إعداد دراسته. فهي حجر الأساس الذي يُبنى عليه كل ما يأتي لاحقًا من أسئلة وفرضيات ومنهجية وتحليل. إن تحديد مشكلة واضحة ومحددة يسهم بشكل كبير في نجاح البحث وجودته، بينما تؤدي الصياغة الضعيفة أو غير الدقيقة إلى انحراف المسار العلمي أو غموض النتائج.
وتكمن أهمية هذه الخطوة في كونها توضح للقارئ – سواء كان مشرفًا أكاديميًا أو لجنة مناقشة – طبيعة الظاهرة التي ينوي الباحث دراستها، والسبب وراء اختيارها، ومدى ارتباطها بالسياق العلمي أو المجتمعي.
كما أن صياغة المشكلة هي أول ملامسة حقيقية للباحث مع الإطار العملي لدراسته، وهي التي توجه عملية البحث بأكملها وتحدد نطاقه واتجاهه. فكلما كانت المشكلة محددة، كلما كان من السهل رسم الأهداف واختيار الأدوات المنهجية المناسبة لمعالجتها.
ما المقصود بـ صياغة مشكلة البحث العلمي؟
عندما نتحدث عن صياغة مشكلة البحث العلمي، فإننا نقصد العملية التي يتم فيها تحويل ظاهرة أو قضية مثيرة للاهتمام إلى سؤال علمي محدد قابل للمعالجة والتحليل. فالمشكلة ليست مجرد وصف لواقع معين أو تعبير عن اهتمام شخصي، بل هي تعبير علمي دقيق عن وجود فجوة معرفية، أو إشكالية واقعية، تستحق الدراسة والتقصّي.
ومن الناحية التقنية، تُعد المشكلة المحور الذي تدور حوله جميع مكونات البحث. فهي تُسهم في:
-
تحديد الأسئلة البحثية أو الفرضيات.
-
توجيه المنهجية (كمّية أو نوعية أو مختلطة).
-
تحديد نوع البيانات المطلوبة وأدوات جمعها.
-
رسم الإطار النظري الذي يدعم تفسير النتائج.
من المهم أيضًا التمييز بين “المشكلة”، و”السؤال البحثي”، و”أهداف الدراسة”. فالمشكلة تُمثل الظاهرة أو الإشكالية العامة، بينما السؤال يُعبر عن طريقة الباحث في استقصاء تلك المشكلة، والأهداف تُحدد الغاية من الدراسة في ضوء المشكلة.
كيف يتم صياغة المشكلة في البحث العلمي؟
هذا السؤال كثيرًا ما يُطرح من قِبل طلاب الدراسات العليا: “كيف يتم صياغة المشكلة في البحث العلمي؟” والإجابة تبدأ من الالتزام بخطوات واضحة تساعد الباحث على تحويل أفكاره إلى مشكلة بحثية دقيقة. من أبرز هذه الخطوات:
-
تحديد الموضوع العام: يبدأ الباحث باختيار مجال عام يهتم به، كالتعليم، أو الصحة، أو الإعلام، ويستعرض فيه اهتماماته أو ملاحظاته الشخصية.
-
حصر الظاهرة أو القضية: يتم تضييق النطاق من خلال التركيز على مشكلة فرعية أكثر تحديدًا ضمن المجال، مثل “انخفاض الدافعية لدى طلاب المرحلة الثانوية”.
-
مراجعة الأدبيات والدراسات السابقة: بالاطلاع على ما كُتب في نفس الموضوع، يمكن للباحث رصد الفجوات البحثية أو القضايا غير المحسومة.
-
صياغة المشكلة على شكل سؤال أو عبارة إشكالية: بعد جمع البيانات والملاحظات، يتم تحويل القضية إلى مشكلة بحثية واضحة، مثل: “ما أسباب ضعف الدافعية لدى طلاب المرحلة الثانوية في مادة الفيزياء؟”
-
التأكد من قابلية المشكلة للبحث والتحليل: يجب أن تكون المشكلة قابلة للقياس، ويمكن اختبارها باستخدام أدوات علمية، وليست مجرد انطباعات أو آراء.
من المهم أن يتدرج الباحث في تفكيره، وينتقل من العام إلى الخاص، وأن يتجنب التسرع في الصياغة النهائية قبل أن يُنهي مراجعة المصادر المرتبطة.
المعايير الأساسية لصياغة مشكلة بحث علمي ناجحة
لكي تكون صياغة مشكلة البحث العلمي قوية ومقبولة أكاديميًا، لا بد أن تلتزم بمجموعة من المعايير التي تضمن وضوحها ودقتها وقابليتها للبحث. ومن أهم هذه المعايير:
-
الوضوح والدقة: يجب أن تكون المشكلة مكتوبة بلغة مفهومة وخالية من الغموض أو المصطلحات غير الضرورية. الغموض في الصياغة يفتح الباب لتفسيرات متناقضة ويضعف مصداقية البحث.
-
الواقعية والإمكانية: ينبغي أن تكون المشكلة قابلة للدراسة الفعلية، أي يمكن جمع بيانات عنها واختبارها في بيئة البحث المتاحة.
-
الأهمية الأكاديمية أو المجتمعية: لا يكفي أن تكون المشكلة مثيرة للاهتمام، بل يجب أن تُمثل إضافة علمية أو تُسهم في حل قضية واقعية مؤثرة.
-
التحديد الزمني والمكاني (عند الحاجة): من الأفضل أن تحدد المشكلة الإطار الزمني والمكاني إذا كان ذلك ضروريًا. مثلًا: “في مدارس شمال الأردن خلال العام الدراسي 2024/2025”.
-
الصياغة في شكل تساؤل أو عبارة تقريرية: بعض المدارس البحثية تُفضل أن تُكتب المشكلة في شكل سؤال (ما مدى…؟ كيف تؤثر…؟)، بينما يفضل البعض الآخر صياغتها كعبارة تقريرية تصف الواقع القائم.
صياغة المشكلة وفق هذه المعايير تساعد الباحث في رسم خريطة واضحة لدراسته، وتسهم في جعلها أكثر اتساقًا ومنهجية.
أنواع المشكلات في البحث العلمي
المشكلات في البحث العلمي ليست نمطًا واحدًا، بل تختلف باختلاف التخصص، والمنهج المستخدم، وطبيعة الظاهرة المدروسة. ومن أبرز أنواع المشكلات البحثية:
-
مشكلة معرفية أو علمية: تُعالج نقصًا في المعلومات أو تضاربًا في النتائج ضمن مجال معرفي معين. مثل: “قلة الأبحاث حول أثر التكنولوجيا في اكتساب اللغة الثانية.”
-
مشكلة تطبيقية أو عملية: تركز على قضية واقعية تحتاج إلى حل عملي. مثل: “تأخر الطلاب عن المدرسة في المناطق الريفية.”
-
مشكلة اجتماعية أو تربوية: تهتم بظواهر مجتمعية أو تعليمية، وتكون غالبًا مرتبطة بسلوك الأفراد أو أنظمة التعليم. مثل: “زيادة العنف اللفظي في الصفوف الابتدائية.”
-
مشكلة سياسية أو اقتصادية: تتناول قضايا ترتبط بالأنظمة السياسية أو النماذج الاقتصادية، مثل: “أثر رفع الدعم الحكومي على القوة الشرائية في فئة الدخل المحدود.”
فهم نوع المشكلة يُساعد الباحث على تحديد المنهج الأنسب للدراسة، وعلى تصميم أدوات مناسبة لجمع البيانات وتحليلها.
أخطاء شائعة في صياغة مشكلة البحث العلمي
يقع الكثير من الباحثين وطلاب الدراسات العليا في مجموعة من الأخطاء الشائعة عند صياغة مشكلتهم البحثية، مما يؤثر على جودة البحث أو يؤدي إلى رفضه من اللجان الأكاديمية. من أبرز هذه الأخطاء:
-
العمومية المفرطة: صياغة المشكلة بطريقة واسعة لا تسمح بالتركيز أو التحليل الدقيق، مثل: “ضعف التعليم في الوطن العربي.”
-
التكرار أو معالجة موضوع مستهلك: اختيار موضوعات سبق دراستها كثيرًا من دون وجود زاوية جديدة يُفقد البحث قيمته.
-
استخدام لغة غير علمية أو عاطفية: مثلًا: “كارثة عدم احترام المعلمين في المدارس!”، وهي صياغة لا تتماشى مع الطابع العلمي المطلوب.
-
تجاوز المشكلة لصلاحيات الباحث: بعض المشكلات تكون أوسع من قدرات الباحث، مثلًا: “إصلاح النظام التعليمي في العالم العربي”، وهي قضية لا يمكن تناولها في بحث محدود.
-
التركيز على الرغبة الشخصية دون أساس علمي: يجب أن تُبنى المشكلة على قراءة نقدية للمصادر وليس فقط على اهتمام الباحث الشخصي.
تجنّب هذه الأخطاء يُعد خطوة أولى نحو بناء بحث علمي ناجح ومعتمد أكاديميًا.
أمثلة على مشاكل بحثية مكتوبة بطريقة احترافية
لفهم أفضل لكيفية صياغة مشكلة البحث العلمي بطريقة سليمة، من المفيد الاطلاع على نماذج واقعية مأخوذة من مجالات مختلفة. وفيما يلي بعض الأمثلة:
-
في مجال التربية:
“يعاني طلاب المرحلة الثانوية من تدنٍ في مستوى التحصيل في مادة الرياضيات، رغم توافر بيئة تعليمية مناسبة. ما أسباب هذا التدني؟” -
في مجال الإعلام:
“شهدت السنوات الأخيرة تحولًا ملحوظًا في مصادر المعلومات لدى الشباب العربي، حيث تراجعت وسائل الإعلام التقليدية أمام منصات التواصل. كيف أثر هذا التحول على مصداقية الأخبار المتلقاة؟” -
في مجال الاقتصاد:
“تشير البيانات إلى زيادة مستويات البطالة بين خريجي الجامعات في بعض الدول العربية. ما العلاقة بين نوع التخصص الأكاديمي ومعدل التوظيف في السوق المحلي؟” -
في مجال الصحة العامة:
“رغم انتشار حملات التوعية، لا تزال معدلات الإصابة بمرض السكري مرتفعة بين الفئة العمرية من 30 إلى 50 عامًا في المناطق الحضرية. ما أسباب ذلك؟” -
في مجال التقنية وعلوم الحاسوب:
“يواجه طلاب البرمجة الجدد صعوبات في استيعاب مفاهيم الخوارزميات. كيف يمكن لتقنيات التعلم التفاعلي أن تُسهم في تحسين الفهم البرمجي لديهم؟”
ما يميز هذه الصياغات هو وضوحها، ارتباطها بواقع يمكن دراسته، وتحديدها للفئة المستهدفة والمجال الجغرافي والزمني – مما يجعلها صالحة للبحث والتطبيق.
الفرق بين صياغة المشكلة وسؤال البحث
رغم ارتباطهما الوثيق، إلا أن هناك فرقًا جوهريًا بين مشكلة البحث وسؤال البحث، ويجب على الباحث فهم هذا الفرق لتجنب الخلط بين المفهومين.
-
مشكلة البحث:
هي وصف عام ودقيق لظاهرة تحتاج إلى دراسة. تُكتب غالبًا كبيان أو كفقرة إشكالية تصف ما يحدث، ولماذا يحتاج إلى بحث. -
سؤال البحث:
هو الصياغة التفاعلية التي تنبثق من المشكلة، ويُستخدم لتوجيه منهجية البحث. يأتي على شكل سؤال واضح، وغالبًا يكون قابلاً للاختبار.
مثال توضيحي:
-
المشكلة:
“يعاني طلاب الجامعات من تراجع مهارات الكتابة الأكاديمية، رغم إدراج مقررات متخصصة في هذا المجال.” -
السؤال:
“ما مدى فعالية المقررات الجامعية في تحسين مهارات الكتابة الأكاديمية لدى الطلاب؟”
بمعنى آخر، المشكلة تصف “ماذا يحدث؟”، بينما السؤال يسأل “لماذا يحدث؟” أو “ما العلاقة بين…؟”. من هنا تنطلق الفرضيات والخطوات التالية للبحث.
أدوات تساعد في تطوير وصياغة مشكلة البحث
لكي يتمكن الباحث من صياغة مشكلته بطريقة متينة ومدروسة، يمكنه الاستعانة بعدد من الأدوات والأساليب التي تساعده على بلورة الفكرة وتحويلها إلى مشكلة بحثية قابلة للدراسة:
-
مراجعة الدراسات السابقة:
الاطلاع على أبحاث مشابهة يساعد على رصد الفجوات المعرفية أو التساؤلات التي لم تُجب بعد. -
تحليل الإطار النظري:
الفرضيات والنماذج النظرية تساعد على فهم العلاقة بين المفاهيم وتوليد تساؤلات جديدة. -
الاستفادة من العصف الذهني:
تنظيم جلسات تفكير فردية أو جماعية لطرح أكبر عدد ممكن من التساؤلات المتعلقة بموضوع البحث، ثم تحليلها لاختيار الأنسب. -
إجراء مقابلات أولية أو استطلاعات بسيطة:
الحديث مع أصحاب العلاقة أو مراجعة آراء الجمهور المستهدف قد يفتح للباحث زاوية جديدة لم يكن قد فكر فيها من قبل. -
استخدام خرائط المفاهيم:
وهي أدوات بصرية تساعد على تنظيم الأفكار وتوضيح العلاقات بين المفاهيم، مما يساعد في تضييق نطاق المشكلة وصياغتها بدقة.
كلما استخدم الباحث هذه الأدوات بشكل منهجي، تمكن من كتابة مشكلة بحثية قوية تمثل نقطة انطلاق سليمة لدراسته.
الأسئلة الشائعة حول صياغة مشكلة البحث العلمي
هل يمكن تعديل مشكلة البحث بعد البدء في الدراسة؟
نعم، من الشائع أن يُجري الباحث تعديلات على صياغة المشكلة في المراحل الأولى من البحث، خاصة بعد الاطلاع على الدراسات السابقة أو عند مواجهة صعوبات في جمع البيانات. التعديلات يجب أن تكون مدروسة ومبنية على مبررات علمية واضحة.
هل يشترط أن تكون المشكلة جديدة تمامًا؟
ليس من الضروري أن تكون المشكلة لم تُدرس من قبل، لكن الأهم أن تكون الزاوية التي يتناولها الباحث جديدة، أو أن يقدم تفسيرًا مختلفًا، أو يطبق نموذجًا نظريًا لم يُستخدم مسبقًا في السياق ذاته.
كيف أضمن أن موضوعي غير مكرر؟
يمكنك مراجعة قواعد البيانات الأكاديمية المحلية والدولية، مثل Google Scholar، ProQuest، أو المكتبة الرقمية لجامعتك، للتأكد من عدم وجود دراسات مكررة في نفس السياق أو العينة أو الإطار الزمني.
ما الفرق بين المشكلة العلمية والرغبة الشخصية؟
الرغبة الشخصية قد تكون دافعًا جيدًا، لكنها وحدها لا تكفي لصياغة مشكلة بحث. يجب أن تستند المشكلة إلى مراجعة علمية، وملاحظة واقعية، وفجوة معرفية حقيقية. أي مشكلة لا يمكن ربطها بإطار نظري أو بيانات واقعية تُعد أقرب إلى اهتمام ذاتي منها إلى إشكالية بحثية.
هل يمكن صياغة أكثر من مشكلة في بحث واحد؟
يفضَّل أن يركز الباحث على مشكلة رئيسية واحدة يتفرع عنها عدد من الأسئلة أو المشكلات الجزئية. كثرة المشكلات قد تُضعف تركيز البحث وتُشتت الجهد، خاصة في الرسائل الجامعية ذات الحجم المتوسط.
خاتمة:
إن صياغة مشكلة البحث العلمي هي واحدة من أهم وأدق مراحل إعداد البحث، وهي الأساس الذي تُبنى عليه كل مكونات الدراسة من أهداف، وأسئلة، وفرضيات، ومنهجية. لذلك، فإن إعطاء هذه المرحلة ما تستحقه من وقت وتفكير وقراءة يُعد استثمارًا حقيقيًا في نجاح البحث وقيمته العلمية.
كلما كانت صياغة المشكلة دقيقة، واضحة، ومبنية على أساس علمي، زادت احتمالية إنتاج دراسة ذات جودة عالية تؤثر وتُحدث فرقًا في المجال العلمي أو المجتمعي. لذا، ننصح كل باحث بأن يُراجع المشكلة التي صاغها أكثر من مرة، ويعرضها على مشرفه الأكاديمي أو مختصين، ويقارنها بما كُتب في أدبيات تخصصه.
في النهاية، المشكلة الجيدة لا تطرح سؤالًا فحسب، بل تفتح أفقًا للبحث، وتحفّز النقاش، وتُسهم في التقدّم المعرفي الحقيقي.
اترك تعليقاً